التجربـة الصوفيـة وعلاقتها بالكتابة الشعرية
يقوم التصوف في جوهره على تجربة متخيلة، كما أن هذه التجربة نفسها تنبني على أساسين وهما :
1-التجربة الباطنية المباشرة للاتصال بين العبد والرب. 2-إمكان الاتحاد بين الصوفي وبين الله .
والأساس الأول ممكن التحقق، وهو جوهر التجربة الصوفية عموما، لأن الاتحاد بين الصوفي والله لا يحدث إلا في خيال الصوفي، كما أن هناك مقولات عدة تنفي هذا الأساس، لأن حلول الناسوت في اللاهوت أو العكس، أو الاتحاد بينهما هو عبارة عن علاقة جدلية بين الظاهر والباطن فقط، فالباطن هو الأصل، والظاهر صورة له. ” وكما أن الأصل لا يفسر بالفرع والسبب لا يفسر بالنتيجة، فإن الباطن لا يفسر بالظاهر، بل الظاهر هو الذي يفسر بالباطن”. ويمكن القول أيضا بأن حال الاتحاد هو حال يحدث للصوفي وهو مغيب العقل. حيث يكون في حالة سكر، إذ لا يفرق بين أفعاله وصفاته وأفعال وصفات الله، لتمكنه من خلع الصفات الخارجية له، كما أنه يكون محكوما بحال الفناء، والفاني لا يشاهد إلا ربه وهذا ما عبر عنه الصوفية بحال الجمع، فـ” الفرق ما نسب إليك والجمع ما سلب عنك، ومعناه ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشر فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع.
ورؤية العبد قيام الله بأفعاله يعد جمعا، وهو من باب الاتحاد، وحال الجمع هذا هو أساس كثير من المصطلحات الجريئة التي أطلق عليها الصوفية مصطلح ” الشحطات”، وقد حذر ابن عربي من السقوط فيه، والقول بذلك، لأن الشطح وليد لغة شائكة بالمفارقات، يقول : ” وأرباب الشطح ليسوا من أهل الكمال، وإنما هم سكارى الحال، ولذا اتفق الصوفية على أن تطوى مقالة السكران ولا تؤدى “.
إن القول بقيام التصوف على التجربة الباطنية المباشرة، يقتضي وجود طرفين- العبد – الرب- حيث ترتقي هذه العلاقة من كونها علاقة حب إلى كونها علاقة جذب، فالله إذا أحب عبدا قربه إليه ومنَّ عليه بالفتوحات، وهي أحوال سامية تتنزل على قلب السالك لتزيده إيمانا وطمأنينة، حيث تكون التجربة خلالها معاشة، يحسها السالك، الذي يكون مزودا بملكة خاصة غير العقل المنطقي، وهي التي يتم بها هذا الاتصال .
وفيها تتحد الذات بالموضوع، وتقوم فيها البوادة، واللوائح واللوامع مقام التصورات والأحكام والقضايا في المنطق العقلي، والمعرفة فيها معاشة لا متأملة، ويغمر صاحبها شعور عارم بقوى تضطرم فيه، تغمره كفيض من النور الباهر، أو يغوص فيها كالأمواج العميقة ويبدو له أيضا أن قوى عالية قد غزته وشاعت في كيانه الروحي، وهو لهذا يسميها واردات، ونفحات علوية، وفي مرتبة أدنى تدعى خواطر، ومن هنا يشعر صاحب هذه التجربة بإثراء في كيانه الروحي، وتحرر في أفكاره، وخواطره، وانطلاق لطاقات حسية عميقة الغور في نفسه، ويصحب هذه الأحوال أحيانا ظواهر نفسية غير عادية، مثل الشعور بأن ثمة هواتف وأصواتا يسمعها أو تخيل رؤى خارقة أو الإحساس بجذبات ومواجيد، وقد تفرط أحيانا فتصبح أحوالا غير سوية تماما، كأنها نوبات هيستيرية أو صرعات”.
وتتصل التجربة الصوفية الإسلامية في شكلها الأعمق والأكمل بحسب ما ذهب إليه أدونيس بالتجربة الباطنية الإمامية”، فهذه التجربة الأخيرة تقوم على تجاوز التاريخ المكتوب، ذلك أنها تتجه إلى المستقبل وتنتظر المجيء، و[تقوم أيضا ] على تجاوز الظاهر المنظم في تعاليم وعقائد، ذلك أنها تتجه إلى باطن العالم، وتعنى بمعناه الخفي المستور، [كما أنها تسعى إلى ] تجاوز المنطق وأحكامه، ذلك أنها تصدر عن النبوة ولدنية والعلم”.
فالنبوة المحمدية هي خاتمة النبوءات، كما أنها تعد خاتمة للظاهر أيضا، ذلك أن لها ما يتممها في الباطن” وهو الإمامة أو الولاية، فالولاية بهذا المعنى هي باطن النبوة، النبوة بتعبير آخر هي الشريعة، أما الولاية فهي الحقيقة، وهكذا يكون الإمام ينبوع المعرفة الكامنة فيما وراء النص ” .
كما تقوم التجربة الصوفية على الحب كأساس تبنى عليه كل المقولات، فالحب هو الذي أدى إلى وجود العالم، والإنسان وكل الكائنات، فالأرواح تتعطش للقرب لأنها محل المحبة، في حين تحل المعارف في القلوب وهي ترجمان الأرواح، والحب هو النقطة المحورية التي تدور حولها كل المقامات والأحوال، حيث يستند الصوفية في تبرير خلق العالم إلى الحديث القدسي: ” كنت كنزا مخفيا لا أعرف، فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني” فظهور الكون والخلق كان بسبب الحب المؤدي إلى المعرفة، والحب الإنساني هو طريق إلى الحب الإلهي.
تقوم العلاقة بين الله والإنسان حسب ابن عربي على أبعاد ثلاثة:” وهي المماثلة، والخلاف، والضدية، والمماثلة نابعة من أن الإنسان على صورة الله، والخلاف نابع من أن الصورة تغاير الأصل، ولكن هذا الخلاف القائم على المماثلة يؤدي إلى التوافق، والمحبة والائتلاف [يؤسسان] ركائز المعرفة التي يحقق بها الهدف النهائي من الإيجاد، أما علاقة الضدية فهي علاقة الذات الإلهية بالذات الإنسانية، فهما ذاتان متغايرتان تغايرا حاسما، هو تغاير الأضداد، فالإنسان مثل لله، من حيث الصورة الإلهية ضد من حيث إن الحق سمعه وبصره وقواه، فأثبته وأثبت نفسه في عين واحدة، ولا يكون الله سمع العبد وبصره حتى يحبه، ولا يحبه حتى يتقرب إليه بالنوافل(…) ولا يكون الحق سمع العبد وبصره إلا إذا كانا متمايزين من حيث العين، ولكنه التمايز القائم على التماثل، وهذا التمايز أو الخلاف هو الذي يؤدي إلى المحبة والوفاق والالتئام”.
وحب الصوفية غالبا ما يلتبس مع الحب البشري، لأن هذا الأخير هو مظهر من مظاهره، فكما أن الله يتجلى في جميع الكائنات، فإنه يتجلى أكثر في الكائنات الجميلة، والله جميل يحب الجمال، لهذا جعلت المرأة بديلا غنوصيا للذات الإلهية، بكل مكوناتها، ويعلل ابن عربي ذلك بأن الله خلق الجمال في الكون وجعله محبوبا لذاته، كما أنه ميز بين أنواع عدة، فهناك الحب الطبيعي، والذي تشترك في الإحساس به كل الكائنات، وهناك الحب الروحاني والذي يخص الكائن البشري، لأنه لا يخضع للضرورة البيولوجية فقط، ولا للرغبة في الالتذاذ والإشباع وإنما يرتبط بإرادة إنسانية في تجاوز تلك الرغبات قصد الوصول إلى الإشباع الروحاني، وهذا الأخير هو “حب للحقيقة المجردة عن المواد الطبيعية، ولا يتقيد بصورها، إنه حب الخواص والعارفين الذين يتعلقون بالمعاني العامة والعلوم والحقائق الكلية التي لا تتقيد ولا تتحيز، ولا يتخيلها إلا ناقص الفطرة، فإنه يصور ما ليس بصورة، وهذا هو حب العارفين الذين يمتازون به عن العوام أصحاب الاتحاد (= الإتصال الجنسي ).
وهذا الحب الروحاني يولد في الإنسان تعطشا وميلا نحو التسامي إلى المراتب العلوية للكون، وشوقا عارما لتلقي الحقائق الروحية العليا، والاتصال بالأرواح وكشف الأسرار . ويأتي في المرتبة الثالثة الحب الإلهي، وقد ميز ابن عربي بين نوعين من الحب الإلهي انطلاقا من كون الصوفية قد جعلوا من سلوكهم الصوفي
الخميس يوليو 26, 2012 10:55 am من طرف adamsgroup
موضوع: التجربـة الصوفيـة وعلاقتها بالكتابة الشعري 
